الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْيَقِـينِ: وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ. وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ. وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ. وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ: وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ {وَجَعَلَنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ. فَقَالَ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. فَـالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ السُّفْيَانَيْنِ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ. وَلَا تَحْمَدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلَا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ. وَلَا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةَ كَارِهٍ. وَإِنَّ اللَّهَ بِعَـدْلِهِ وَقِسْـطِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ». وَالْيَقِينُ قَرِينُ التَّوَكُّلِ. وَلِهَذَا فُسِّرَ التَّوَكُّلُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَلِهَذَا حَسُنَ اقْتِرَانُ الْهُدَى بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} فَالْحَقُّ: هُوَ الْيَقِينُ. وَقَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}. وَمَتَّى وَصَلَ الْيَقِينُ إِلَى الْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا. وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ وَسَخَطٍ، وَهَمٍّ وَغَمٍّ. فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ. وَخَوْفًا مِنْهُ وَرِضًا بِهِ، وَشْكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ. فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ كَسْبِيٌّ، أَوْ مَوْهِبِيٌّ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَوْدَعُ فِي الْقُلُوبِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ كَسْبِيٍّ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْيَقِينُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ كَسْبِيٌّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ. قَالَ سَهْلٌ: ابْتِدَاؤُهُ الْمُكَاشَفَةُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا. ثُمَّ الْمُعَايَنَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: هُوَ تَحَقُّقُ الْأَسْرَارِ بِأَحْكَامِ الْمَغِيبَاتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ ظَاهِرٍ: الْعِلْمُ تُعَارِضُهُ الشُّكُوكُ، وَالْيَقِينُ لَا شَكَّ فِيهِ. وَعِنْدَ الْقَوْمِ: الْيَقِينُ لَا يُسَاكِنُ قَلْبًا فِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْيَقِينُ يَدْعُو إِلَى قَصْرِ الْأَمَلِ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ يَدْعُو إِلَى الزُّهْدِ. وَالزُّهْدُ يُورِثُ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تُورِثُ النَّظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ. قَالَ: وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ: قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي الْعَشْرَةِ. وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ. وَالتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِهِ أَيْضًا: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْيَقِينُ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنَ التَّقْوَى أَدْرَكُوا مِنَ الْيَقِينِ. وَأَصْلُ التَّقْوَى مُبَايَنَةُ النَّهْيِ. وَهُوَ مُبَايَنَةُ النَّفْسِ. فَعَلَى قَدْرِ مُفَارَقَتِهِمُ النَّفْسَ: وَصَلُوا إِلَى الْيَقِينِ. وَقِيلَ: الْيَقِينُ هُوَ الْمُكَاشَفَةُ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مُكَاشَفَةٌ فِي الْأَخْبَارِ. وَمُكَاشَفَةٌ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ. وَمُكَاشَفَةُ الْقُلُوبِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُكَاشَفَةِ: ظُهُورُ الشَّيْءِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. فَلَا يَبْقَى مَعَكَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ أَصْلًا. وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِيمَانِ. وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهَا أَمْرًا آخَرَ. وَهُوَ مَا يَرَاهُ أَحَدُهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ عِنْدَ أَوَائِلِ تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنِ الْبَدَنِ. وَمَنْ أَشَارَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ: فَقَدْ غَلِطَ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ. وَقَالَ السَّرِيُّ: الْيَقِينُ سُكُونُكَ عِنْدَ جَوَلَانِ الْمَوَارِدِ فِي صَدْرِكَ، لِتَيَقُّنِكَ أَنَّ حَرَكَتَكَ فِيهَا لَا تَنْفَعُكَ. وَلَا تَرُدَّ عَنْكَ مَقْضِيًّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ مَلَاكُ الْقَلْبِ. وَبِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ. وَبِالْيَقِينِ عُرِفَ اللَّهُ. بِالْعَقْلِ عُقِلَ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ. وَمَاتَ بِالْعَطَشِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الْيَقِينِ عَلَى الْحُضُورِ وَالْحُضُورِ عَلَى الْيَقِينِ. فَقِيلَ: الْحُضُورُ أَفْضَلُ. لِأَنَّهُ وَطَنَاتٌ، وَالْيَقِينُ خَطِرَاتٌ. وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ الْيَقِينَ. وَقَالَ: هُوَ غَايَةُ الْإِيمَانِ. وَالْأَوَّلُ: رَأَى أَنَّ الْيَقِينَ ابْتِدَاءُ الْحُضُورِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْيَقِينَ ابْتِدَاءً. وَالْحُضُورَ دَوَامًا. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَتَبَيَّنُ. فَإِنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحُضُورِ. وَلَا الْحُضُورُ عَنِ الْيَقِينِ. بَلْ فِي الْيَقِينِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ وَشُعَبِهِ، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا- مَا لَيْسَ فِي الْحُضُورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْحُضُورِ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ، وَالدُّخُولِ فِي الْفِنَاءِ: مَا قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْيَقِينُ. فَالْيَقِينُ أَخَصُّ بِالْمَعْرِفَةِ. وَالْحُضُورُ أَخَصُّ بِالْإِرَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّهْرَجُورِيُّ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ حَقَائِقَ الْيَقِينِ صَارَ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ نِعْمَةً وَالرَّخَاءُ عِنْدَهُ مُصِيبَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: يَقِينُ خَبَرٍ. وَيَقِينُ دَلَالَةٍ. وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ. يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ: سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَتَوَثُّقَهُ بِهِ. وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ: مَا هُوَ فَوْقَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ- مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ- الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ- مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ- يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْأَمْثَالَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ. فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ. فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ. فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ عَلَيٍّ- كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي. فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْيَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَهْوَالِ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ. وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دَائِمًا. فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ: حُمِلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ. وَالْعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأَخُّرِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْيَقِينُ قَعَدَ بِصَاحِبِهِ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالْغَنَائِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْيَقِينِ]: الْيَقِينُ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْيَقِينِ: مَرْكِبُ الْآخِذِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَهُوَ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. لَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ- كَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْعِلْمُ مَا اسْتَعْمَلَكَ. وَالْيَقِينُ مَا حَمَلَكَ- سَمَّاهُ مَرْكِبًا يَرْكَبُهُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَوْلَا الْيَقِينُ مَا سَارَ رَكْبٌ إِلَى اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِي السُّلُوكِ إِلَّا بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ: لِأَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ. ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقَامٍ لَهُمْ. وَإِنَّمَا هُوَ مَبْدَأٌ لِسُلُوكِهِمْ. فَمِنْهُ يَبْتَدِئُونَ سُلُوكَهُمْ وَسَيْرَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّ الْخَاصَّةَ عِنْدَهُ سَائِرُونَ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. لَا تَقِفُ بِهِمْ دُونَهَا هِمَّةٌ. وَلَا يَعْرُجُونَ دُونَهَا عَلَى رَسْمٍ. فَكُلُّ مَا دُونَهَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ الْعَامَّةِ، وَمَنَازِلِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ. حَتَّى الْمَحَبَّةُ. وَحَسْبُكَ بِجَعْلِ الْيَقِينِ نِهَايَةً لِلْعَامَّةِ. وَبِدَايَةً لَهُمْ. قَالَ: .[دَرَجَاتُ الْيَقِينِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمُ الْيَقِينِ]: ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، هِيَ مُتَعَلِّقُ الْيَقِينِ وَأَرْكَانُهُ. الْأُولَى: قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ تَعَالَى. وَالَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعُهُ، وَدِينُهُ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا مِنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. فَنَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ. الثَّانِي: قَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ وَتَفْصِيلِهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنَ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا، وَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَطَيِّ الْعَالِمِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ، وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ. فَقَبُولُ هَذَا كُلِّهِ- إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَإِيقَانًا- هُوَ الْيَقِينُ. بِحَيْثُ لَا يُخَالِجُ الْقَلْبَ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَلَا شَكٌّ وَلَا تَنَاسٍ، وَلَا غَفْلَةٌ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَهْلِكْ يَقِينُهُ أَفْسَدَهُ وَأَضْعَفَهُ. الثَّالِثُ: الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، الَّذِي أَسَاسُهُ: إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَضِدُّهُ: التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ، وَالتَّهَجُّمُ. فَهَذَا التَّوْحِيدُ يُقَابِلُهُ التَّعْطِيلُ. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَصْدِيُّ الْإِرَادِيُّ، الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ: فَيُقَابِلُهُ الشِّرْكُ، وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ جَاحِدٌ لِلذَّاتِ أَوْ لِكَمَالِهَا. وَهُوَ جَحْدٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ ذَاتًا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَرْضَى، وَلَا تَغْضَبُ، وَلَا تَفْعَلُ شَيْئًا. وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلَةً بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلَةً، وَلَا مُجَانِبَةً لَهُ، وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ، وَلَا مُجَاوِرَةً وَلَا مُجَاوِزَةً، وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ: سَوَاءٌ هِيَ وَالْعَدَمِ. وَالْمُشْرِكُ مُقِرٌّ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. لَكِنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ. فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ لِلذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. فَالْيَقِينُ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَتَوْحِيدِهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْرَفُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ: عِلْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِلْمُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الْمَعَادِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَيْنُ الْيَقِينِ]: الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالْعَيَانِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: فَوْقَ هَذَا. وَقَدْ مَثَّلْتُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةِ بِمَنْ أَخْبَرَكَ: أَنَّ عِنْدَهُ عَسَلًا، وَأَنْتَ لَا تَشُكُّ فِي صِدْقِهِ. ثُمَّ أَرَاكَ إِيَّاهُ. فَازْدَدْتَ يَقِينًا. ثُمَّ ذُقْتَ مِنْهُ. فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَالثَّالِثُ: حَقُّ الْيَقِينِ. فَعِلْمُنَا الْآنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ: عِلْمُ يَقِينٍ. فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ فِي الْمَوْقِفِ لِلْمُتَّقِينَ وَشَاهَدَهَا الْخَلَائِقُ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَعَايَنَهَا الْخَلَائِقُ. فَذَلِكَ: عَيْنُ الْيَقِينِ. فَإِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: فَذَلِكَ حِينَئِذٍ حَقُّ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ: هُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْلَالِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ. يُرِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ: الْإِدْرَاكَ وَالشُّهُودَ. يَعْنِي صَاحِبُهُ قَدِ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ. فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُشَاهَدًا لَهُ- وَقَدْ أَدْرَكَهُ بِكَشْفِهِ- فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ؟ وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ. فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْخَارِقِ لِحِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَنِ الشُّهُودِ. فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَرْتَفِعُ الْحِجَابُ. وَيُفْضِي إِلَى الْمَعْلُومِ، بِحَيْثُ يُكَافِحُ بَصِيرَتَهُ وَقَلْبَهُ مُكَافَحَةً. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَقُّ الْيَقِينِ]: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ لَا تُنَالُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِلرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِعَيْنِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَمُوسَى يَنْظُرُ، فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا. نَعَمْ يَحْصُلُ لَنَا حَقُّ الْيَقِينِ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَهِيَ ذَوْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا بَاشَرَهَا وَذَاقَهَا صَارَتْ فِي حَقِّهِ حَقَّ يَقِينٍ. وَأَمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً عَيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ حَقِيقَةً بِلَا وَاسِطَةٍ- فَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ: الْإِيمَانُ. وَعِلْمُ الْيَقِينِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: يَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاءِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّالِكُ عِنْدَهُ يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ. وَيَتَحَقَّقُ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ. وَيَصِلُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، قَالَ: حَقُّ الْيَقِينِ: هُوَ إِسْفَارُ صُبْحِ الْكَشْفِ. يَعْنِي: تَحَقُّقَهُ وَثُبُوتَهُ، وَغَلَبَةَ نُورِهِ عَلَى ظُلْمَةِ لَيْلِ الْحِجَابِ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الْعِلْمِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ بِالْفَنَاءِ عَنِ الرَّسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ كُلْفَةِ الْيَقِينِ. يَعْنِي: أَنَّ الْيَقِينَ لَهُ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. وَيَقُومُ بِهَا، وَيَتَحَمَّلُ كُلَفَهَا وَمَشَاقَّهَا. فَإِذَا فَنِيَ فِي التَّوْحِيدِ حَصَلَ لَهُ أُمُورٌ أُخْرَى رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ جِدًا. يَصِيرُ فِيهَا مَحْمُولًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ حَامِلًا، وَطَائِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ سَائِرًا، فَتَزُولُ عَنْهُ كُلْفَةُ حَمْلِ تِلْكَ الْحُقُوقِ. بَلْ يَبْقَى لَهُ كَالنَّفَسِ، وَكَالْمَاءِ لِلسَّمَكِ. وَهَذَا أَمْرٌ التَّحَاكُمُ فِيهِ إِلَى الذَّوْقِ وَالْإِحْسَاسِ. فَلَا تُسْرِعْ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ. وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا. فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ. أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ. وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَتْ مُطَابِقَةً لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ. لَكِنْ بَقِيَتْ نُكْتَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ مَوْضِعُ السَّجْدَةِ، وَهِيَ أَنَّ فَنَاءَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَشُهُودِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَرْبَابُ الْفَنَاءِ بَلْ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. فَفَنُوا بِحُبِّهِ تَعَالَى عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ. وَبِمُرَادِهِ مِنْهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَحُظُوظِهِمْ. فَلَمْ يَكُونُوا عَامِلِينَ عَلَى فَنَاءٍ. وَلَا الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ. بِحَيْثُ يَفْنَوْنَ بِهِ عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ قَدْ فَنُوا بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِهِمْ. فَهُمْ أَهْلُ بَقَاءٍ فِي فَنَاءٍ، وَفَرْقٍ فِي جَمْعٍ. وَكَثْرَةٍ فِي وَحْدَةٍ. وَحَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ فِي حَقِيقَةٍ دِينِيَّةٍ. هُمُ الْقَوْمُ. لَا قَوْمَ إِلَّا هُـمُ وَلَوْلَاهُمُ مَا اهْتَدَيْـنَا السَّبِــيلَا فَنِسْبَةُ أَحْوَالِ مَنْ بَعْدَهُمُ الصَّحِيحَةُ الْكَامِلَةُ إِلَى أَحْوَالِهِمْ: كَنِسْبَةِ مَا يَرْشَحُ مِنَ الظَّرْفِ وَالْقِرْبَةِ إِلَى مَا فِي دَاخِلِهَا. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفَةُ الْفَاسِدَةُ: فَسَبِيلٌ غَيْرُ سَبِيلِهِمْ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. .فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ رُوحُ الْقُرْبِ وَلِهَذَا صَدَّرَ مَنْزِلَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. فَاسْتِحْضَارُ الْقَلْبِ هَذَا الْبِرَّ وَالْإِحْسَانَ وَاللُّطْفَ: يُوجِبُ قُرْبَهُ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَرْبُهُ مِنْهُ يُوجِبُ لَهُ الْأُنْسَ وَالْأُنْسُ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَكُلُّ مُطِيعٍ مُسْتَأْنِسٌ، وَكُلُّ عَاصٍ مُسْتَوْحِشٌ، كَمَا قِيلَ: وَالْقُرْبُ يُوجِبُ الْأُنْسَ وَالْهَيْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ. .[دَرَجَاتُ الْأُنْسِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى الْأُنْسُ بِالشَّوَاهِدِ]: هَذِهِ اللَّفْظَةُ يُجْرُونَهَا فِي كَلَامِهِمْ- أَعْنِي لَفْظَةَ الشَّوَاهِدِ- وَمُرَادُهُمْ بِهَا أَمْرَانِ. .أَحَدُهُمَا: الْحَقِيقَةُ: فَالْمُرِيدُ: يَأْنَسُ بِشَاهِدِهِ. وَيَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ. وَالثَّانِي: شَاهِدُ الْحَالِ. وَهُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ. وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ، وَسُلُوكِهِ وَحَالِهِ. فَإِنَّ شَاهِدَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ. وَمُرَادُ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: الشَّاهِدُ الْأَوَّلِ. الَّذِي يَأْنَسُ بِهِ الْمُرِيدُ، وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى اسْتِحْلَاءِ الذِّكْرِ، طَلَبًا لِظَفَرِهِ بِحُصُولِ الْمَذْكُورِ. فَهُوَ يَسْتَأْنِسُ بِالذِّكْرِ طَلَبًا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَيَتَغَذَّى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَتَغَذَّى الْجِسْمُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. فَإِنْ كَانَ مُحِبًّا صَادِقًا، طَالِبًا لِلَّهِ، عَامِلًا عَلَى مَرْضَاتِهِ: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ، الَّذِي كَانَ غِذَاءَ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَصَحَّهَا أَحْوَالًا. وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا فَاسِدَ الْحَالِ، مَلْبُوسًا عَلَيْهِ، مَغْرُورًا مَخْدُوعًا: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ. الَّذِي هُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَحَابِّ النُّفُوسِ، وَلَذَّتِهَا وَحُظُوظِهَا. وَأَصْحَابُهُ: أَبْعَدُ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ. وَأَغْلَظُهُمْ عَنْهُ حِجَابًا وَإِنْ كَثُرَتْ إِشَارَاتُهُمْ إِلَيْهِ. وَهَذَا السَّمَاعُ الْقُرْآنِيُّ سَمَاعُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. وَيَحْصُلُ لِلْأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ مِنْ مَعَانٍ وَإِشَارَاتٍ، وَمَعَارِفَ وَعُلُومٍ. تَتَغَذَّى بِهَا الْقُلُوبُ الْمُشْرِقَةُ بِنُورِ الْأُنْسِ. فَيَجِدُ بِهَا وَلَهَا لَذَّةً رُوحَانِيَّةً. يَصِلُ نَعِيمُهَا إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَرُبَّمَا فَاضَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْأَجْسَامِ. فَيَجِدُ مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَمْ يَعْهَدْ مِثْلَهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ. وَلِلتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ سِرٌّ لِطَيْفٌ. نَذْكُرُهُ لِلُطْفِ مَوْضِعِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ فِي إِيثَارِ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ. لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ غِذَاءِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ وَنَعِيمِهِ. فَلَوْ جِئْتَهُ بِأَلْفِ آيَةٍ وَأَلْفِ خَبَرٍ لِمَا أَعْطَاكَ شَطْرًا مِنْ إِصْغَائِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَرْبَابُ الْكَلَامِ. اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلْقُلُوبِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْغِذَاءِ: نَوْعًا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِسِّيِّ. وَلِلْقَلْبِ مِنْهُ خُلَاصَتُهُ وَصَفْوُهُ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ. وَالثَّانِي: غِذَاءٌ رُوحَانِيٌّ مَعْنَوِيٌّ، خَارِجٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ: مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ. وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَبِهَذَا الْغِذَاءِ كَانَ سَمَاوِيًّا عُلْوِيًّا. وَبِالْغِذَاءِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ أَرْضِيًّا سُفْلِيًّا. وَقِوَامُهُ بِهَذَيْنَ الْغِذَاءَيْنِ. وَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَغِذَاءٌ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. فَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ. وَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا غِذَاءٌ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الشَّمِّ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الذَّوْقِ. وَكَذَلِكَ ارْتِبَاطُهُ بِحَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: أَشَدُّ مِنِ ارْتِبَاطِهِ بِغَيْرِهِمَا. وَوُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ أَكْمَلُ، وَأَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْحَوَاسِّ. وَانْفِعَالُهُ عَنْهُمَا أَشَدُّ مِنِ انْفِعَالِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانَهُ بِهِمَا أَكْثَرَ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِمَا. بَلْ لَا يَكَادُ يُقْرَنُ إِلَّا بِهِمَا، أَوْ بِإِحْدَاهُمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وقال تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ. لِأَنَّ تَأَثُّرَهُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ: أَعْظَمُ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِمَا يَلْمَسُهُ وَيَذُوقُهُ وَيَشَمُّهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ: هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ. وَهِيَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ. وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالسَّمْعِ وَارْتِبَاطُهُ بِهِ: أَشَدُّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْبَصَرِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ. وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْمَلْذُوذَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَكْرُوهَاتِ سَمَاعًا وَرُؤْيَةً. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ حَاسَّةَ السَّمْعِ أَفْضَلُ مِنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ لِشَدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْقَلْبِ، وَعِظَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا. وَتَوَقُّفِ كَمَالِهِ عَلَيْهَا. وَوُصُولِ الْعُلُومِ إِلَيْهِ بِهَا، وَتَوَقُّفِ الْهُدَى عَلَى سَلَامَتِهَا. وَرَجَحَّتْ طَائِفَةٌ حَاسَّةَ الْبَصَرِ لِكَمَالِ مُدْرَكِهَا. وَامْتِنَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ. وَزَوَالِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ بِهِ. وَلِأَنَّهُ عَيْنُ الْيَقِينِ. وَغَايَةُ مُدْرَكِ حَاسَّةِ السَّمْعِ عِلْمُ الْيَقِينِ. وَعَيْنُ الْيَقِينِ أَفْضَلُ، وَأَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ. وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا رُؤْيَةُ وَجْهِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ هَذَا التَّعَلُّقِ. وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا حَسَنًا. فَقَالَ: الْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ. وَالْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. فَلِلسَّمْعِ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالْإِحَاطَةُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلِلْبَصَرِ: التَّمَامُ وَالْكَمَالُ. وَإِذَا عَرَفَ هَذَا. فَهَذِهِ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ لَهَا أَشْبَاحٌ وَأَرْوَاحٌ، وَأَرْوَاحُهَا حَظُّ الْقَلْبِ وَنَصِيبُهُ مِنْهَا. فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ لَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا نَصِيبٌ إِلَّا كَنَصِيبِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ مِنْهَا. فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَوَّلُ دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِهَذَا شَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولَئِكَ بِالْأَنْعَامِ. بَلْ جَعَلَهُمْ أَضَلَّ. فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَلِهَذَا نَفَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعُقُولَ. إِمَّا لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا. فَنُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ. وَإِمَّا لِأَنَّ النَّفْيَ تَوَجَّهَ إِلَى أَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهَا، وَإِدْرَاكِهَا. وَلِهَذَا يَظْهَرُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ انْكِشَافِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. كَقَوْلِ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَمِنْهُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُبْصِرُونَ صُورَةَ نُبُوَّتِهِ، وَمَعْنَاهَا بِالْحَاسَّةِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي هِيَ بَصَرُ الْقَلْبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْأَصْنَامِ. ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. وَلَا أَبْصَارَ لَهُمْ يَرَوْنَكَ بِهَا. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ الْمُقَابَلَةُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: دَارِي تَنْظُرُ دَارَكَ. أَيْ تُقَابِلُهَا. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ ثَابِتٌ لَهُمْ. وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَمُنْتَفٍ عَنْهُمْ. وَهُوَ سَمْعُ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ الْحِسِّيُّ الْمُشْتَرَكُ، كَالْغَنَمِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ إِلَّا نَعِيقَ الرَّاعِي بِهَا دُعَاءً وَنِدَاءً. وَلَمْ يَسْمَعُوهُ بِالرُّوحِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ رُوحُ حَاسَّةِ السَّمْعِ، الَّتِي هِيَ حَظُّ الْقَلْبِ. فَلَوْ سَمِعُوهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ: لَحَصَلَتْ لَهُمُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنَ السَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ أَثَرُهُ بِالْقَلْبِ. وَلَزَالَ عَنْهُمُ الصَّمَمُ وَالْبَكَمُ. وَلَأَنْقَذُوا نُفُوسَهُمْ مِنَ السَّعِيرِ بِمُفَارَقَةِ مَنْ عُدِمَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ. فَحُصُولُ السَّمْعِ الْحَقِيقِيِّ: مَبْدَأٌ لِظُهُورِ آثَارِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَإِنَّ بِهَا يَحْصُلُ غِذَاءُ الْقَلْبِ وَيَعْتَدِلُ. فَتَتِمُّ قُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ، وَسُرُورُهُ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ. وَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ الصَّالِحَ: احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِغِذَاءٍ قَبِيحٍ خَبِيثٍ. وَإِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ: خَبُثَ وَنَقَصَ مِنْ حَيَاتِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ بِحَسَبِ مَا فَسَدَ مِنْ غِذَائِهِ، كَالْبَدَنِ إِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ نَقَصَ. فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ السَّمْعِ الظَّاهِرِ الْحِسِّيَّ بِالْقَلْبِ أَشَدَّ، وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أَقْرَبَ مِنَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْبَصَرِ وَبَيْنَهُ. وَلِذَلِكَ يُؤَدِّي آثَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الظَّاهِرِ إِلَى الْقَلْبِ أَسْرَعَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ آثَارُ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا رُبَّمَا غُشِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا يَسُرُّهُ أَوْ يَسُوءُهُ. أَوْ صَوْتًا لَذِيذًا طَيِّبًا مُطْرِبًا مُنَاسِبًا. وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ شَدِيدَ التَّأْثِيرِ فِي الْقَلْبِ. وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، لِاشْتِعَالِهِ بِغَيْرِهِ، وَلِمُبَايَنَةِ ظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ تَجَرُّدٍ وَرِيَاضَةٍ: ظَهَرَتْ قُوَّةُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَالتَّأَثُّرِ. فَكُلَّمَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَالْقَلْبُ، وَانْقَطَعَتَا عَنْ عَلَائِقِ الْبَدَنِ، كَانَ حَظُّهُمَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ أَوْفَى، وَتَأَثُّرُهُمَا بِهِ أَقْوَى. فَإِنْ كَانَ الْمَسْمُوعُ مَعْنًى شَرِيفًا بِصَوْتٍ لَذِيذٍ: حَصَلَ لِلْقَلْبِ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَعْنَى، وَابْتَهَجَ بِهِ أَتَمَّ ابْتِهَاجٍ عَلَى حَسَبِ إِدْرَاكِهِ لَهُ. وَلِلرُّوحِ حَظُّهَا وَنَصِيبُهَا مِنْ لَذَّةِ الصَّوْتِ وَنَغَمَتِهِ وَحُسْنِهِ. فَابْتَهَجَتْ بِهِ. فَتَتَضَاعَفُ اللَّذَّةُ. وَيَتِمُّ الِابْتِهَاجُ. وَيَحْصُلُ الِارْتِيَاحُ. حَتَّى رُبَّمَا فَاضَ عَلَى الْبَدَنِ وَالْجَوَارِحِ. وَعَلَى الْجَلِيسِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ عَلَى الْكَمَالِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ. فَإِذَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَكَانَتْ مُسْتَعِدَّةً. وَبَاشَرَ الْقَلْبَ رُوحُ الْمَعْنَى. وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْمَسْمُوعِ. فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَسَاعَدَهُ طِيبُ صَوْتِ الْقَارِئِ: كَادَ الْقَلْبُ يُفَارِقُ هَذَا الْعَالَمَ. وَيَلِجُ عَالَمًا آخَرَ. وَيَجِدُ لَهُ لَذَّةً وَحَالَةً لَا يَعْهَدُهَا فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ رَقِيقَةٌ مِنْ حَالَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. فَيَا لَهُ مِنْ غِذَاءٍ مَا أَصْلَحَهُ وَمَا أَنْفَعَهُ. وَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ قَدْ تَرَبَّى عَلَى غِذَاءِ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ: أَنْ يَجِدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ. بَلْ إِنْ حَصَلَ لَهُ نَوْعُ لَذَّةٍ. فَهُوَ مِنْ قِبَلِ الصَّوْتِ الْمُشْتَرَكِ. لَا مِنْ قِبَلِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَلَيْسَ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَعْلَى مِنْ رُؤْيَتِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ مَحْبُوبِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا- لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ أَوْ مَرْفُوعٌ- إِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِشَيْءٍ، وَارْتَفَعَتِ الْمُبَايَنَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ: أَدَّتِ الْأُذُنُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَسْمُوعِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَسْمُوعُ. وَلَا قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنًى. بَلْ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُجَرَّدَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَرَجُلٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرَةٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَتَدْرِي إِيشُ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكَرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. كَمَا سَمِعَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ مِنَ الْمُنَادِي: يَا سَعْتَرْ بَرِّي: اسْعَ تَرَ بِرِّي. وَهَذَا السَّمَاعُ الرَّوْحَانِيُّ تَبَعٌ لِحَقِيقَةِ الْقَلْبِ وَمَادَّتِهِ مِنْهُ، فَالِاتِّحَادُ بِهِ يَظُنُّ بِهِ السَّامِعُ: أَنَّهُ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ مِنَ الصَّوْتِ الْخَارِجِيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّحَادُ السَّمْعِ بِالْقَلْبِ. وَأَكْمَلُ السَّمَاعِ: سَمَاعُ مَنْ يَسْمَعُ بِاللَّهِ مَا هُوَ مَسْمُوعٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ. وَهُوَ سَمَاعُ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ. وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ. وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا. وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ. وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ. وَبِي يَمْشِي». وَالْقَلْبُ يَتَأَثَّرُ بِالسَّمَاعِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ. فَإِذَا امْتَلَأَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَسَمْعِ كَلَامِ مَحْبُوبِهِ- أَيْ بِمُصَاحَبَتِهِ وَحُضُورِهِ فِي قَلْبِهِ- فَلَهُ مِنْ سَمَاعِهِ هَذَا شَأْنٌ. وَلِغَيْرِهِ شَأْنٌ آخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|